أخبار محلية

“قاتلٌ صامت”.. يحصد أكثر من 70 مليوناً سنويًّا

كتب حبيب معلوف في “الأخبار”:

 

يتجاوز عدد الوفيات الناجمة عن تلوّث الهواء السبعين مليوناً سنوياً، عالمياً، بمعدل شخص من بين 9 أشخاص. في لبنان تتعدّد الأسباب التي تفاقم من نسب التلوّث، كما من القدرة على الحدّ منه، إذ توقفت محطات أجهزة قياس تلوّث الهواء عن العمل بسبب عدم القدرة على صيانتها، كما توقفت المعاينة الميكانيكية، التي كانت تُعتبر صمّام الأمان لتلوّث الهواء الناجم عن قطاع النقل، والذي لا ينافسه إلا قطاع إنتاج الطاقة الكهربائية.

 

لأن نهاية الإنسان محتومة ومعروفة، كانت للحياة أهميتها القصوى. وبالرغم من صعوبات هذه الحياة، إلا أن أجمل ما فيها كان «شمّ الهواء». فماذا فعلنا في هذا العنصر الحيوي والأساسي في حياتنا وحياة باقي الكائنات من حولنا؟ كيف تركناه يصل إلى هذه الحدود القاتلة، بدل أن يكون مصدراً أساسياً لنوعية حياتنا وبهجتنا في هذه الحياة؟ ومن قال إن نوعية الحياة تقلّ أهمية عن الحياة نفسها؟

إنّ أهمّ عنصر مؤثر في جودة الحياة هو جودة الصحة، وأهم عنصر مؤثر في جودة الصحة هو جودة الهواء. نستطيع أن نعيش لأيام من دون غذاء وماء، ولكن لا نستطيع أن نعيش ثوانيَ من دون هواء. فكيف ستكون الحال إذا كان الهواء الذي نستنشقه ملوّثاً؟ نحتاج في اليوم إلى 12 كيلوغراماً من الهواء، في حين لا نحتاج إلى نصف هذه الكمية من الغذاء والماء. فماذا إذا تلوّثت كل هذه الكمية من الهواء التي نحتاج إليها يومياً؟

 

«القاتل الصامت»

 

وفق دراسات عالمية، فإن شخصاً من كلّ 9 أشخاص يموت من تلوّث الهواء، وبات عدد الوفيات على المستوى العالمي بسبب تلوث الهواء يتجاوز السبعين مليوناً سنوياً، ليصبح تلوث الهواء هو القاتل الأول بين كل القضايا البيئية. قيل عنه إنه «القاتل الصامت»، ولكنه في لبنان بات منظوراً وله طعم ورائحة وضجيج.

 

توقفت محطات أجهزة قياس تلوّث الهواء، التي كانت موصولة بغرفة عمليات في وزارة البيئة، عن العمل ما قبل الأزمة الاقتصادية، بسبب عدم القدرة على صيانتها. وتراجع عدد الموظفين في الدائرة المعنية في الوزارة، كما عدد العاملين فيها بشكل دراماتيكي. توقفت المعاينة الميكانيكية التي كانت تُعتبر صمّام الأمان لتلوّث الهواء الناجم عن قطاع النقل، الذي طالما اعتُبر الملوّث الأكبر للهواء، والذي لا ينافسه إلا قطاع إنتاج الطاقة الكهربائية ولا سيما بعدما توسّع هذا البلد الصغير في الاعتماد على مولدات الديزل الخاصة المنتشرة في الأحياء السكنية وبين المنازل، وتراجعت الصيانة وزادت ساعات الاعتماد عليها.

 

لا ينحصر التلوّث الأكبر في المدن فقط كما هو معلوم، ولكن تلوّث الهواء الداخلي في المنازل لا يقل خطراً، وخصوصاً في بيوت المدخنين وبيوت التدفئة غير الآمنة وحسب نوعية طلاء الجدران والأخشاب والمواد والأدوات المنزلية وأبخرة مواد التنظيف والتجميل ومعطّرات الجو وغبار السجاد والموكيت وعدم صيانة المكيّفات وقلة التهوئة، إلخ.

 

كلفة صحية مرتفعة

حتى إن تلوّث المدن بات لا يتوقف في المدن فحسب، وقد بيّنت بعض الدراسات أنه يرتفع صعوداً إلى ارتفاعات لا تقلّ عن 800 متر عن سطح البحر، تبعاً لدرجات حرارة الأرض وسرعة الرياح واتجاهاتها. كلّ هذه القضايا وغيرها تم تناولها في ورشة العمل التي نظّمتها وزارة البيئة تحت عنوان «تلوّث الهواء القاتل الصامت الأول في لبنان»، وشارك فيها العديد من الخبراء من مراكز الأبحاث والجامعات التي أجرت دراسات تاريخياً على موضوع تلوّث الهواء.

 

وزير البيئة في حكومة تصريف الأعمال ناصر ياسين تحدّث عن «الكلفة الصحية الناجمة عن تلوّث الهواء، التي تقارب 900 مليون دولار سنوياً»، معلناً أنّه «في صدد إعداد تعميم جديد لضبط الانبعاثات من المولّدات، بعدما وقّع على قرار التشدّد في تحديد المعايير الحدية للانبعاثات الصناعية».

كما أشارت النائبة الدكتورة نجاة صليبا إلى تقاسم بعض القوى الطائفية لتجارة السيارات بين الجديدة والمستعملة، وكيف يُترجم هذا الانقسام في التشريعات والقرارات… وهو الموضوع- الانقسام نفسه الذي نراه في إدارة المعامل الحرارية والمولّدات الخاصة وفي شركات استيراد المحروقات بأنواعها كافة من دون مواصفات، أو مع مواصفات غير محترمة، إلا بقدر ما تساهم في تغطية زيادة الأكلاف والأسعار والصفقات… هذا النهج المدمر الذي نتوقع ترجمته أيضاً في ملف التنقيب عن النفط والغاز قبل أن يبدأ الاستخراج! ومن ثم نسأل لماذا أصابنا ما أصابنا من انهيار اقتصادي ومالي وأخلاقي وفي نظم الأمان البيئي والصحي؟ ولماذا لم يتم وضع الاستراتيجيات والخطط لحماية الهواء وأسس الحياة في هذا الوطن الذي أصابته اللعنات من كل حدب وصوب؟

بيّنت الدراسات التي عُرضت في الورشة الحجم المخيف للسرطانات (على أنواعها)، والتشوّهات الناجمة عن تلوّث الهواء ولا سيما تلك الجزيئات الدقيقة التي عجز العالم عن السيطرة عليها، مهما حسّن في تقنيات المحركات والفلترة ونوعية الوقود، وأنه كلما أصبحت منتهية الصغر زادت قدرتها على خرق الرئتين والانتقال إلى الدم والتسبّب بأمراض سرطانية وتنفسية جمّة.

 

مسؤولية السلطات المتعاقبة

 

حقيقة أن تلوّث الهواء يقتل، معروفة من خلال التقارير الوطنية والأممية منذ أكثر من ربع قرن، ومصادر تلوّث الهواء محدّدة بوضوح مع وجود أجهزة قياس أو من دونها، والاستراتيجية تم وضعها بالإضافة إلى القوانين اللازمة… إلا أن ما حال دون تطبيقها، تلك السلطات المتعاقبة التي أدّت دور «القاتل المأجور»، بحرفية عالية جداً، أعلى من أصوات الخبراء والمراكز البحثية والجامعية وبعض دوائر الوزارات المعنية. وبعدما وضعوا سياسات استشفائية (لصالح التكنولوجيا الطبية وشركات الأدوية) بدل السياسات الصحية (لحماية الصحة العامة)، ونظّموا النقل لتسهيل استخدام السيارات الخاصة بدل تنظيم النقل العام، واحتكروا إنتاج الطاقة المركزية الممسوكة من قبل شركات كبرى بدل تشجيع سياسات التوفير والكفاءة ولامركزية الطاقة المتجددة النظيفة والموجودة تاريخياً… وبعد تلوث الهواء، تمادى المتسببون في قطع الهواء نفسه عن الناس، مع تفاقم الأزمة الاقتصادية أيضاً وانهيار الدولة، لم يعد مفهوماً كيف لا يزال هناك من ينتظر الحلول على أيدي «القتلة المأجورين»، تجار الموت والكوارث الآن، وهم أنفسهم كانوا تجار السيارات والمولّدات (أو وراءهم) وطبعوا سياسات الطاقة والنقل بطابعهم كل تلك السنوات؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى