هل جاء إعلان الجيش الإسرائيلي “الوقف التكتيكي” للنار جنوب غزة ردّاً منه على تأييد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو قانون إعفاء “الحريديم” من التجنيد؟ أم الهدنة التكتيكية دورها أن تكون تغطية لتهدئة جبهة جنوب لبنان، منعاً لتوسّع الحرب، ما دام الحزب يرهن وقف القتال بوقفه في غزة؟ وهل من دور لإدارة واشنطن حرب إسرائيل على القطاع في إعلان تلك الهدنة؟
في أيّ حال أظهرت الخلافات بين المستويَين العسكري والسياسي في إسرائيل درجة عالية من التفكّك قلّ نظيرها. اختزل السجال على الهدنة الكثير من الصراعات في الدولة العبريّة.
توالدت الأسئلة فور إعلان الجيش الإسرائيلي عن الـ Tactical pause ، من الثامنة صباحاً إلى السابعة مساءً. وأوحى بيان الجيش أنّ الهدنة لن تكون قصيرة لأنّها ستنفّذ “يوميّاً حتى إشعار آخر”.
انكشاف الرّيبة بين الجيش ونتنياهو
كان مبرّر هذا التدبير هو تمرير المساعدات الإنسانية من معبر كرم أبو سالم إلى شارع صلاح الدين ثمّ شمال غزة. وكانت الخلفيّة محاولة نتنياهو الظهور بمظهر من يستجيب للضغط الأميركي والدولي والتحذيرات من تفشّي المجاعة. فبيان قمّة الدول السبع في 14 الجاري شدّد على وجوب “تدفّق المساعدات الإنسانية في جميع أنحاء غزة، والإنهاء الدائم للحصار”. بينما أدّى اقتحام معبر رفح منذ 7 أيار الماضي ثمّ العمليات القتالية في أنحاء المدينة إلى انقطاع شبه كامل لدخول الأغذية.
كشفت ردود الفعل أزمة غير مسبوقة من التخبّط الإسرائيلي بعد أكثر من 8 أشهر من الوحدة الصلبة حول الحرب ضدّ غزة. ليست المرّة الأولى التي يظهر فيها التباين بين الجيش والقيادة السياسية، منذ بدء الحرب، لكنّ السجال أضاء على جملة أمور:
– كشف عمق الريبة المتبادلة بين المؤسّسة العسكرية ونتنياهو. أشارت التسريبات إلى أنّ الأخير على علم بنيّة إعلان هذه الهدنة لأنّه سبق أن وعد واشنطن بزيادة المساعدات الإنسانية لغزّة. وهو من أعطى أمراً بزيادة المساعدات. مع ذلك خاض مع الجيش معركة حول مرجعية القرار. اعتبره “غير مقبول” وذكر أنّه علم به من وسائل الإعلام. وقال غداة القرار موجّهاً كلامه لقيادة الجيش: “لدينا دولة ذات جيش لا جيش له دولة”. مع ذلك أجمع مراقبون وعسكريون سابقون على شرعية اتخاذ القيادة العسكرية قراراً بهدنة موضعية، من دون الرجوع إلى الحكومة.
الخسائر الميدانيّة والمحاسبة عن 7 أكتوبر
– دخول نجل رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير نتنياهو على خطّ المواجهة على صفحته على “إنستغرام”. وصف 3 من كبار قادة الأمن بأنّهم “إخفاقات قاتلة”. والمقصود رئيس الأركان هرتسي هاليفي، ورئيس جهاز الأمن الداخلي “الشاباك” رونين بار، ورئيس الاستخبارات العسكرية أهارون حاليفا. هؤلاء حمّلهم نتنياهو مسؤولية الفشل في مواجهة عملية “طوفان الأقصى”، من ضمن معركته لإنقاذ نفسه من المحاسبة بعد وقف الحرب.
– جاءت الهدنة غداة خسارة الجيش 9 جنود في تفجير آليّتهم من قبل المقاومة في رفح، ووفاة ضابط وجندي في القتال في شمال غزة. ويسود اعتقاد وفق الإعلام الإسرائيلي أنّ الجيش ضاق ذرعاً بغياب خطّة من الحكومة لنهاية الحرب بموازاة تكبّده الخسائر. فقيادته تعتقد أنّها حقّقت الجزء المتعلّق بإضعاف قدرات حماس وتفكيك بنيتها التحتية. وبالتالي يجب وقف استنزاف الجيش. فالحرب لن تنتهي إلا باتفاق يجري التفاوض عليه.
طموح بن غفير وسموتريتش لقيادة الجيش
– وزيرا اليمين المتطرّف الاستيطاني إيتامار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش هاجما الهدنة. وذهب الأوّل بعيداً في وصف من قرّرها بأنّه “أحمق يجب ألا يبقى في منصبه”. ويأتي ذلك في سياق سعيه إلى مزيد من النفوذ في الجيش. فالعارفون بدور منظّمات الاستيطان يشيرون إلى أنّ دورها في الجيش يتعاظم، وأنّ تطرّفها كان وراء الفظاعات والمجازر في غزة. وتشير تقارير إلى أنّ بن غفير وسموتريتش يطمحان إلى تعيين رئيس للأركان من الضبّاط المناصرين لهما. إلا أنّ أحد أسباب ردّة فعل نتنياهو المنسجمة معهما، خشيته من أن يتسبّب الخلاف باستقالتهما من حكومته وفرطها.
– وقوع القيادة العسكرية في ارتباك تجلّى بإصدار بيان جديد، بعدما قال وزير الدفاع يوآف غالانت إنّه لم يكن يعلم بالهدنة. وهذه إشارة إلى أنّ نتنياهو أتاح تمرير المساعدات من دون التشاور معه. البيان التوضيحي جاء متناقضاً. أكّد أن “لا وقف للقتال في جنوب غزة ولا يوجد تغيير في إدخال البضائع”.
رسالة تمرّد ضدّ نتنياهو.. وأزمة التّجنيد
– تساءل مراقبون عمّا إذا كان إعلان الهدنة رسالة تمرّد من قيادة الجيش الإسرائيلي على بنيامين نتنياهو الذي فهمها كذلك إذ قال: “كثيراً ما اتّخذت قرارات لتقويض قدرات حماس، لكنّها لم تكن مقبولة دائماً على المستوى العسكري”. فالهدنة جاءت بموازاة قرار تأجيل تسريح دفعة من جنود الاحتياط من الخدمة ثلاثة أشهر أخرى. وهي ردّ على تأييد نتنياهو ونواب حزبه في الكنيست القراءة الأوّلية لقانون إعفاء الحريديم، اليهود المتشدّدين دينياً، من الخدمة العسكرية. وفي وقت يعترض فيه الجيش على هذا الإعفاء لحاجته إلى مزيد من الجنود، بدل استنزاف جنود الاحتياط، تنشأ لدى نتنياهو حسابات أخرى. فهمّه كسب أصوات نواب الحريديم (14) لمصلحة بقائه في السلطة.
متطلّبات واشنطن وتهدئة الجنوب
ثمّة أبعاد أخرى تتخطّى البلبلة الإسرائيلية بين المستويين السياسي والعسكري، في التعاطي مع إعلان الجيش الهدنة. أبرزها:
1- إدراك الجيش أهمّية التناغم مع الموقف الأميركي. فمن دون دعم واشنطن لا مجال لاكتساب مصادر التفوّق العسكري والحماية الدولية المتآكلة. لذلك ركّزت اتصالات وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن مع غالانت مجدّداً على خفض المعاناة الإنسانية للمدنيين الفلسطينيين. استطاع الرئيس الأميركي تجييش دول الغرب لتحميل حماس مسؤولية أيّ فشل لخطّته لوقف الحرب، لكنّه ضمناً يخشى تقويض نتنياهو لها.
الهدنة جاءت عشية زيارة غالانت واشنطن. ومع إعلانه أنّ هدفها الحصول على أسلحة جديدة لتلبية احتياجات جبهة الشمال مع الحزب، فإنّه ينسجم والجيش مع هدف آخر. فهو على خلاف مع نتنياهو حول غياب خطّة اليوم التالي، التي تلحّ عليها إدارة بايدن. بهذا المعنى تشكّل الهدنة التي رحّبت بها الأمم المتحدة وواشنطن مطلباً أميركياً.
2- تزامنها مع مخاطر توسّع الحرب على الجبهة الشمالية مع الحزب، وحصولها عشيّة زيارة المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين إسرائيل للجمها. وحذّرت قيادة “اليونيفيل” حذّرت في جنوب لبنان كذلك منسّقة الأمم المتحدة جينين هينيس بلاسخارت من أنّ “خطر سوء التقدير هو حقيقي للغاية”.
لكنّ حسابات المستوى العسكري إزاء الحرب الشاملة مختلفة عن حقيقة التهديدات بشنّها. رئيس الاستخبارات العسكرية السابق تامير هيمان اعتبر أنّه “إذا نشبت حرب شاملة في الشمال، فلن تشبه أيّ حدث آخر تعيشه الجبهة الداخلية المدنية في إسرائيل. وقبل أن نقرّر شنّ حرب شاملة في لبنان يجب تحديد كيف ستنتهي، وما سيدفع الحزب إلى قبول وقف النار”. والحسابات من الجهة اللبنانية لا تقلّ حذراً وتحفّظاً. فالحزب يدرك حجم الخسائر التي سيتكبّدها والبلد، مهما كانت قدراته الناريّة والصاروخية التدميرية في الجانب الإسرائيلي. ولذلك يمكن اعتبار إعلان هدنة جنوب غزة على رمزيّتها إشارةً إلى إمكان انسحابها على جنوب لبنان. ويمكن للمراقب ملاحظة تراجع كثافة تصعيد الحزب استهدافاته لشمال إسرائيل بدءاً من يوم السبت الماضي، قياساً إلى الأسبوع السابق.
ستكشف الأيام المقبلة إذا كانت رافقت هدنة الجنوبَين، الغزّي و اللبناني، اتصالات عبر القنوات الخلفيّة. كما نشرت صحيفة W.S.G اليوم عن اتصالات غير مباشرة بين المبعوث الرئاسي الأميركي والحزب.
مهما يكن، لفت بث القناة 12 الإسرائيلية بث خبر بعد ظهر أمس الإثنين، جاء فيه: “يسود صمت غير معتاد على الجبهة الشمالية منذ صباح السبت. في إسرائيل لايعرفون سبب وقف النار من حزب الله. ربما بسبب عيد الأضحى، أو بسبب وصول هوكستين الذي يسعى للتوصل إلى تسوية”.
وليد شقير – اساس ميديا